تعزية

*تعـــزيـــــة*

ببالغ التسليم والرضا بقضاء الله وقدره، تلقينا نبأ وفاة *الحاج الحبيب المهنديز* مؤسس مدرسة الحاج البشير القرآنية وأحد رعاتها.

وبهذه المناسبة الأليمة يتقدم الأستاذ الدكتور عبد الفتاح الفريسي أصالة عن نفسه ونيابة عن أسرة مدرسة الحاج البشير الإدارية والتربوية إلى أسرة الفقيد، بأصدق عبارات التعازي وعظيم المواساة، سائلين الله العلي القدير أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته وعظيم مغفرته، وينعم عليه بعفوه ومغفرته، ويسكنه فسيح جناته، ويكرم نزله ويوسع مدخله.

وإنا لله وإنا إليه راجعون

*عبد الفتاح الفريسي*

مدير عام مؤسسة الحاج البشير

تمارة – المملكة المغربية

“سلطان الطلبة” .. عرف يكرس العناية بحفظة القرآن لتحقيق الأمن الروحي

“استمساكٌ بما عُرف به المسلِمون عامة، والمغاربة على وجه الخصوص، من شدة عنايتهم بكتاب الله، باعتباره أساس الأمن الروحي” يحضر، وفق المنظّمين، في أحدث مواعد الاحتفاء بحفظة القرآن من الأطفال والطفلات، بالعاصمة الرباط، في الشوارع العمومية، مع إلقاء دروس تعلي من شأن من خصصّوا جزءا من وقتهم لإتمام حفظ القرآن، وتسلط الضوء على القيم الإيجابية التي يغذّيها.

هذا الحفل، الذي يستلهم رمزية احتفال “سلطان الطلبة” المغربي التاريخي، مسيرة في الشوارع العمومية بتمارة، نواحي الرباط تحتفي بالأطفال مُتِمّي حفظ القرآن، نظّمته مؤسسة البشير للتعليم العتيق، متم الأسبوع الماضي، بشراكة مع المجلس العلمي المحلي، والمندوبية الإقليمية للأوقاف والشؤون الإسلامية.

ومن بين ما ينظّم هذا الحفل من أجله، وفق منظميه، الاستمرار في سنة مغربية رسمية هي “تكريم أهل القرآن الكريم، وتشجيع حملته، ومجوّديه”، مع التأكيد على “دور القرآن الكريم في نشر مبادئ التسامح، والسلام، ونبذ الكراهية، والعنف”.

وفي تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، قال عبد الفتاح الفريسي، مدير مهرجان “سلطان الطلبة”، إن “مسيرة البشير للقرآن الكريم، سلطان الطلبة، في دورتها الجديدة، تؤكّد على دور القرآن الكريم في بناء الإنسان على معاني الانفتاح، وقيم العطاء، والتنمية والمساهمة فيها”.

وتابع: “هذه المسيرة تستمسك بما عرفه المسلمون عامة والمغاربة خصوصا من شدة العناية بالقرآن الكريم، أساس الأمن الحسي والمعنوي، وتستمسك بسنة الملوك المغاربة وخاصة جلالة الملك محمد السادس في تشجيعه لحملة القرآن الكريم”.

وأكّد الفريسي، في تصريحه، أن هذا الاحتفال تشجيعٌ “لحملة القرآن الكريم وحُفّاظه ومُقرئيه، باعتبارهم النموذج المتوازن الذي ينبغي أن يحتذى، والذي يرتبط بالأصل وينفتح على العصر”.

تجدر الإشارة إلى أن الاحتفالات بحفظة القرآن في مختلف أنحاء المملكة كثيرا ما تستلهم رمزية “سلطان الطلبة”؛ التقليدِ الذي يعود منشأه إلى بداية حكم السلالة العلوية للمغرب، بالعاصمة التاريخية فاس في القرن السابع عشر، حيث كان يُتوّج من بين مُتمّي الحفظ سلطان رمزي يحتفى به، أياما معدودة، وهو ما استمرّ قرونا وصولا إلى العقد الأخير من الاحتلال الأجنبي للمغرب، ثم جاءت محاولات تجديده واستلهام رمزيته.

كلمة السيد مدير المؤسسة دار البشير خلال الحفل الختامي

وفي ما يلي النص الكامل لكلمة الدكتور عبد الفتاح الفريسي المدير العام للمؤسسة:
  • السيد رئيس المجلس العلمي المحلي
  • السيد المندوب الإقليمي للشؤون الإسلامية
  • أصحاب الفضيلة العلماء والأساتذة النبهاء السيدات
  • الطلبة والطالبات
  • السادة والسيدات الضيوف
  • الخريجات العزيزات، الخريجون الأعزاء، أيها الحفل الكريم.
أتذكرُ أنِّي وقفتُ بينَ أبنائي وبناتي وإخواني وأخواتي خريجِي هذه الدفعةِ قبلَ سنواتٍ مضتْ، كانوا حينها في المستوى الأول من دراستِهِم في أكاديمية الدراسات الإسلامية، وكنتُ أتشرفُ بتقديمِ إحدى الموادِ الدراسيةِ، حينها، وفي المحاضرةِ الأولى بعد أن رَحَّبتُ بِكم، وقلتُ لكم عليكُم أنْ ترفعوا هممكم وترتقُوا بأنفسِكُم فكرًا ونظامًا وسلوكًا ومنهجًا على أملِ أنْ أراكُم بعدَ أربعِ سنواتٍ، لأمتع ناظري بكُم وأنتُم ترتدُون برنس التخرجِ، بعد أن تثبتوا اقدامَكُم على طريق العلم والإيمان، وتنهَلُوا من معارِفِ القرآن، وتتناولُوا من موائدِه الغزيرة، عِبر أكاديمية البشير للدراسات الإسلامية، على أيدِي أساتذةٍ ذوي كفاءَةٍ وفي سياقاتٍ وأجواءٍ تربويةٍ وتعليميةٍ جادةٍ، تكادُ تكونُ مثاليةً لحدٍ كبير.
لم يكن قولِي ذاك من المبالغة أو الإفراطِ في الادِّعاء، بل كان حقيقة شعرنا ونشعر بها ونحن نسهر ونتشرف بالسهر على تعليمكم، ولعلَّ ما لَمَسناهُ من نُضجٍ فكريٍّ وسلوكٍ سويٍّ لطلبةِ هذين الفوجين المباركين هو مصداقٌ لما ذكرناه ووقَفنا على حقيقتِه.
أقولُ لكم أيها الخريجون، هذا يوم عيد، فافرحُوا وتباهوا ببرنس التخرجِ، واشكروا الله على ما هداكم، وسيروا بين الناس وكونوا فخورينَ بشهادةِ التخرج، وافرحوا بفضل الله وبرحمته، ولا تَنْسَوا مسؤولِيتَكُم وأمانتكم في نشر العلم والخير، فأنتم تحملون من اليوم أمانة العلم والتعليم، وشرف مهمة الدعوة والتبليغ.
فقدَرُكُم أيُّها الأعزةُ أنَّكُم وُفقتم فدرستم، وتعلمتم فتخرجتُم وأنيطَت بِكُم المسؤوليةُ في زمنٍ حرجٍ مَليءٍ بالإثاراتِ والصراعاتِ والتجاذباتِ الفكريةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ، وما يَتعلق بها من تبعاتٍ قِيَميةٍ وأخلاقيةٍ، كلُّ ذلكَ وسَطَ تسابقٍ سريعٍ لحركةِ الزمنِ، وحركة تطورِ تكنولوجي وحضاريٍّ، باتتْ معه رؤيةُ المستقبلِ ضبابيةً واستشرافُها هلاميا، وقراءةُ حيثياتِها معقدةً.
يا أيها الخريجون .. قَدَرُكُم وسطَ هذا التزاحمِ الكبير أنَّكُم أُثْقِلتُم بحُجَتَينِ: حجةُ العلمِ وحجةُ التبليغِ، التي لا مفر منهما ولا مناص، فكونُوا على قر الحجتين، قدوة وتبليغا، وتَرْجمُوا كلَّ ما تعلمتُمُوهُ من علومٍ ومعارفٍ نظريةٍ إلى واقع عمليٍّ وسلوك عملي، فالأيامُ تمضي والعمرُ يطوى، ونحنُ نتسابقُ جميعًا نحوَ ما تبقَّى من أعمارِنا، التي قد تكونُ أقلَ ممَّا مضَى منها، وانظروا في حياة الناس وطبيعة الدنيا، عَسى أنْ تكونَ تلكَ النظرة منعطفا خاصا، وسببا حقيقيا لنكونَ كما ينبغي أنْ نكونَ، وإلَّا فلا قيمة لكل ما يتعلمه المرء، بغير قومة لله بالحجة: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ)،
لا تدَّخرُوا جهدًا واجتهِدُوا وجاهدُوا في نشرِ الحبِّ والأمنِ، والأمانِ والأملِ، والإحسان والصلاح، حفظكم الله وبارك في جهودكم.

الحفل الختامي لبرنامج الدراسات الإسلامية الخاص بالفوجين: 2022-2023 و2023-2024

تحت شعار الارتباط بالأصل والانفتاح على العصر، نظمت مؤسسة الحاج البشير القرءانية حفلا ختاميا لبرنامج الدراسات الإسلامية الخاص بالفوجين: 2022-2023 و2023-2024.
وبعد دخول خريجي التعليم العتيق إلى قاعة الحفل وسط تهليلات وهتافات الحضور الذي غصت به جنبات القاعة، ابتدأ الحفل بالنشيد الوطني المغربي، أعقبته تلاوة عطرة من آيات الذكر الحكيم تلاها القارئ: ياسر السعودي، بعد ذلك تايع الحضور كلمة مدير المؤسسة “الدكتور عبد الفتاح الفريسي”، أكد فيها على أهمية ترسيخ مبادئ العلم والمعرفة في الأمة، كما تقدم بتهانيه الحارة للخريجي ناصحا إياهم بحمل لواء البناء والارتباط بالأصول الفكرية والثوابت العقدية، وتناول بعد ذلك الأستاذ عبد السلام الحساني عضو لجنة التوعية والإرشاد الديني والتواصل، ذكر فيها بجهود مؤسسة الحاج البشير القرآنية وتفانيها في خدمة المعرفة والعلم.  بعد ذلك، استمع الحضور لقصيدة من تأليف أستاذ مادّة النّحو: عبد الرحيم تيباريك، ثم تابع الحضور باستمتاع وصلة من الأمداح النبوية من أداء: مجموعة الوصال لفنّي المديح والسماع.
وقبل توزيع الشهادات، قام الخريجين بقراءة جماعية في ما تيسّر من سورة الكهف. ثم استمع الحضور إلى كلمة خريجي فوجي: 22-23 و 23-24 الذي أطلق عليه اسم العلامة الفقيه : سيدي محمد بن عبد الله بن داود الصنهاجي : “ابن آجُرُّوم”، قدمتها الطالبة: مينة مجدول، كما تم تكريم ثلاثة من الأساتذة بالمؤسسة وهم:
1.الفقيه: “محمد اليوسفي” خطيب وواعظ بالمجلس العلمي المحلّي الصخيرات – تمارة، برنامج الدراسات الإسلامية.
2.المدرّسة: “فاطمة دادة” محفظة القرءان الكريم ببرنامج التعليم العتيق منذ سنة 2014، برنامج التعليم العتيق.
3.المدرّسة: “خديجة الأزرق” محفظة القرءان الكريم، برنامج الأطفال.
و ثلاثة من الطلبة وهم:
  • إبراهيم العبدي: الرّتبة الأولى في برنامج التعليم العتيق للموسم الدّراسي : 2023/2024، بميزة حسن جدا.
  • التلميذة إيمان السكات: باكلوريا شعبة الاقتصاد باللّغة الفرنسية، بميزة حسن.
  • التلميذ يحيى العبدي: باكلوريا شعبة علوم رياضية بالّلغة الفرنسية، بميزة حسن جدا.
وفي الاخير تم توزيع الشهادات التّخرج مع الدّرع للمتفوّقين الثلاثة من كل مستوى والشواهد للجميع من طرف الإدارة والمجلس العلمي والاساتذة.
وفي الختام كان الجمهور على موعد مع كلمة ختامية مع الدعاء.

إخراجُ زكاة الفطر نقداً.. رُباعية الدِلالات والترجيح

مع دخول العشر الأواخر من رمضان كل عام يكثر الجدل والجدال حول مدى مشروعية إخراج زكاة الفطر مالاً، ونظل ندور كل عام في ذات الدائرة وكأننا نبدأ النقاش فيها للمرة الأولى، ويُنبئنا هذا الجدل عن أزمة عميقة الجذور في الأمة؛ فى إدارتها وتعاملها مع الاختلاف في قضايا الفروع، والاختلاف قائم منذ العهد النبوي بين مدرستين: النص والقصد، لكن تعامل الصحابة والسلف والأئمة معه لم يكن كتعاملنا نحن اليوم؛ حيث غدا الاختلاف فى الفروع سبيلا للتفسيق والتشنيع والتبديع والتحزيب والتفريق، بينما كان السابقون شعارهم قول الإمام الشافعي: “ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة”.

ومن تعاجيب الزمن أن ينتقل الخلاف في هذه القضية إلى الساحة الأوروبية، حيث نظام الحياة وإشكالية الحصول على الحبوب وإيصالها إلى المساكين دون خسارة مالية، فضلاً عن دلالات الوقوف عند ظاهر النص لدى المسلم الأوروبي الجديد، أو تفهم العقلية الأوروبية عموماً لفكرة إغناء الفقير يوم العيد بالحبوب دون المال!

على أن المسألة التى نحن بصدد مناقشتها يفترض أن لا يقع بشأنها خلاف؛ لأن منشأ الخلاف فيها راجع إلى طبيعة العصر الذي عاش فيه السابقون من الفقهاء، وللنص على العلة التى هي مناط الحكم، فكانت تلك العلة في عصرهم متحققة بالحبوب والأصناف الواردة في الحديث، بينما صارت اليوم نفس العلة متحققة بالنقود، ولهذا فإن المسألة كاشفة بوضوح عن أزمة العقل الفقهي المعاصر، وعجزه عن التجديد في أضيق الدوائر وهى دائرة استيعاب النص وتنزيل الحكم على الواقع. وفي هذا المقال أتناول باختصار دِلالات استمرار الجدل في المسألة كل عام، ومُرجِّحات القول بدفع القيمة في زكاة الفطر، كل واحدة منهما في أربع نقاط.

أولاً: الدِلالات الأربع للدوران في جدل الحبوب والمال

غياب فقه الاختلاف وقصده


روى البخاري في صحيحه أن النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للنساء يوم عيد الفطر: «تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» قال البخاري:” فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا”

لقد تأسس التشريع الإسلامي على أصول وفروع، شكلَّت الأصول الثوابت الفكرية الجامعة للأمة، والفروع مساحات المرونة والاجتهاد ليُصبح الإسلام صالحاً لكل العصور والظروف والأمكنة، وقد اختلف الصحابة والتابعون في الفروع وقعَّدوا لذلك القواعد منها قاعدة: “لا إنكار في مسائل الاجتهاد”، فلم ينكر أحدٌ على أحد في الفروع، لكنّ الأمة اليوم فى إدارة خلافها في هذه المسألة الجزئية الفرعية الخلافية ينكر بعضُها على بعض، ويسعى كل فريق لإلغاء رأى الآخر بل صار الاختيار الفقهي فيها معقداً للولاء والبراء، والحب والبغض، والاتباع والابتداع، ومعياراً أصيلاً لقياس العلم والتدين، وإذا كان الحال هكذا في خلاف معتبر فكيف سيكون فيما هو أعظم؟ إن الاختلاف في الفروع سبيل مؤدٍ إلى الاجتماع والوحدة، فكيف نجعله سبيلاً للتفرق والتباغض؟

الانشغال بالفروع والجزئيات عن الأصول والكليات

من يراقب حال أمتنا يجدها انجرت إلى البقاء في تلك الجزئيات الخلافية تدور فيها كل عام لا تخرج منها إلى ما هو أهم وأعظم وإلى ما يتصل بوجودها وقِيَمها وهويتها، وأنه وقع تبديد لجهود وطاقات العلماء في تلك الفروع مثل مسألة القيمة، وتهنئة غير المسلمين بأعيادهم، والاحتفال بالمناسبات الدينية. ولم نر اهتماماً واستنفاراً وسيلا من البحوث والفتاوى حول واجب المسلمين في نصرة المظلومين والمعتقلين، أو إقامة العدل ومنع الظلم، أو مقاومة الاستبداد واستدعاء الشورى، أو محو الأمية والفقر، أم أن السنة والاتباع لا يُعرف إلا في إطار العبادات الفردية التى لا تمس الأنظمة المستبدة، أو تعكر عليها مسيرتها في ظلم الشعوب وإفقارها؟

نذير بتعقد أمر التجديد الفقهي، والاجتهاد الإبداعي

عصرنا هو أكثر العصور كثرة للمستجدات وحفزاً للاجتهاد والإبداع الفقهي، ورغم ذلك بقيت قضية تجديد الفقه في دائرة: ماهية التجديد، وكيف نجدد، ومن المجدد؟ لكنَّا لم نلج بعد باب التجديد ولم ننتج فقهاً جديداً لعصرنا، وبقينا في دائرة الاجتهاد الانتقائي الذي يقوم الفقيه فيه بانتقاء رأى فقهي قال به السابقون، ثم يعمل على ترجيحه وتقوية دليله ليكون صالحا للعصر، وهو ما حدث في مسألة القيمة في زكاة الفطر حيث رجَّح عدد من المعاصرين رأى أبي حنيفة ولم يكن اجتهادا إبداعيا لم يسبقهم إليه أحد، ورغم ذلك لم تتقبله الأمة بقبول حسن أو قطاعا كبيرا منها، فكيف سيكون الحال إذا كنا أمام الاجتهاد الإبداعي الإنشائي الذي نتجاوز فيها فقهنا الموروث وإن كان سيتأسس عليه؟ وهذا يضاعف من مسؤولية علماء الأمة ومفكريها أن تبذل جهدها لإيجاد البيئة الحاضنة للاجتهادات الفقهية الجديدة وإلا ستتعقد عملية التجديد الفقهي المنشود.

ظاهرة حضور الشكل والصورة، وغياب الروح والقصد

المسألة التى نحن بصدد النقاش حولها تؤكد ولع الأمة بالصورة والشكل على حساب الروح والجوهر، فترى قطاعا من الناس يتقدمهم مجموعة من العلماء يرون إخراج الحبوب والطعام ولا يرون صحة غيره البتة حتى وإن تيقنوا من أنه ليس في مصلحة الفقير وباعثهم على ذلك هو: اتباع السنة. ومن عجيب ما قرأت رد أحد العلماء على الاحتجاج بتضرر الفقير وخسارته في علمية استبدال الحبوب بالمال قال: لعلها فرصة للفقير أن يتعلم التجارة ويربح!

وتلك قصية تحتاج بحق إلى دراسة اجتماعية ونفسية وسلوكية، فما الذي جعل قطاعاً كبيراً في الأمة بهذه السطحية الضاربة في فهم المسلمين للعبادات والأحكام، ومن المسؤول عن هذا الحال: العلماء، أم مؤسسات التعليم الشرعي، أم أنظمة الحكم؟ كما توجب على المختصين في مقاصد الشريعة ان يراجعوا جهدهم ونتاجهم، وأن يسائلوا أنفسهم لماذا غابت المقاصد وروح الدين عن حياة المسلمين رغم كثرت الكتابات المقاصدية، ومعاهد وأقسام مقاصد الشريعة، وهل يمكننا أن ننقل الفكر المقاصدي إلى السياسة والدعوة ومناحي الحياة إذا كنا قد فشلنا في تفعيلها فيما هو أهم وأوضح وهو دائرة الأحكام؟

ثانياً: المرجحات الأربعة لدفع زكاة الفطر مالاً في عصرنا

1. الترجيح بالنص


المقصد هو أن يشعر الفقير بفرحة العيد مثل الغني، والفقير اليوم يحتاج أن يشتري لأولاده الملابس الجديدة وهدايا العيد، ولا يصح فيها اليوم غير المال، وقد رأينا عشرات المرات المساكين يبيعون الحبوب لنفس التجار الذين اشترى منهم الأغنياء

روى البخاري في صحيحه أن النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للنساء يوم عيد الفطر: «تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» قال البخاري:” فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا”. قال ابن حجر في الفتح: وعلى غير عادة البخاري في مخالفته للأحناف أن اتفق معهم في إخراج صدقة الفطر نقوداً، وفي جواز إخراج العوض في الزكاة وبوب البخاري باباً سماه “باب العرْض”.

2. الترجيح بكثرة القائلين بجواز إخراج القيمة

يُوهم من يتحدث في المسألة أن أبا حنيفة فقط هو من قال بجواز إخراج القيمة في زكاة الفطر، والحقيقة على خلاف ذلك. وهذه قائمة بالفقهاء الذين قالوا بالقيمة أحصاها فضيلة الشيخ الحبيب بن طاهر: *من الصحابة رضوان الله عليهم* عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عبّاس، ومعاذ بن جبل. قال أبو إسحاق السبيعي من الطبقة الوسطى من التابعين، قال: أدركتهم ـ يعني الصحابة ـ وهم يعطون في صدقة رمضان الدّراهم بقيمة الطّعام. (مصنف ابن أبي شيبة: 3/174، وعمدة القارئ: 9/8).

و*من أئمّة التابعين* عمر بن عبد العزيز، فعن قرّة قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز في صدقة الفطر: نصف صاع عن كلّ إنسان أو قيمته نصف درهم. والحسن البصري، قال: لا بأس أن تعطى الدّراهم في صدقة الفطر، و طاووس بن كيسان، وسفيان الثوري. (مصنف ابن أبي شيبة: 3/174، وموسوعة فقه سفيان الثوري: 473، وفتح الباري: 4/280).

و*من فقهاء المذاهب* أبو عمرو الأوزاعي، وأبو حنيفة النعمان وفقهاء مذهبه، وأحمد بن حنبل في رواية عنه، والإمام البخاري، وشمس الدين الرملي من الشافعية، ومن المالكية: ابن حبيب وأصبغ وابن أبي حازم وابن وهب، وقال الشيخ الصاوي: “الأظهر الإجزاء لأنّه يسهل بالعين سدّ خلّته في ذلك اليوم”. وقد أصدر المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث قرارا بجواز دفع القيمة قرار 4/23، (يونيو) 2013م.

3. الترجيح بالقياس

قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: (خذ الحَبَّ من الحَبِّ، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقر من البقر) وهو صريح في دفع الأعيان، لكن معاذاً رضي الله عنه فهم قصد الزكاة، ولم يتعامل مع النص على أنه تعبدي غير معلل فقال لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس {أنواع من الأقمشة} في الصدقة مكان الشعير والذرة؛ فإنه أهون عليكم وأنفع لمن بالمدينة، وقد أقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولئن جاز في الزكاة وهى الأعلى جاز من باب أولى في زكاة الفطر وهي الأدني.

4. الترجيح بالمقاصد

شُرعت زكاة الفطر لمقصد منصوص عليه في الحديث الصحيح وهو: طهرة للصائم من الرفث واللغو، وطعمة للفقراء والمساكين، وفي الحديث الضعيف على الأرجح: اغنوهم عن ذل السؤال في هذا اليوم. فالمقصد هو أن يشعر الفقير بفرحة العيد مثل الغني، والفقير اليوم يحتاج أن يشتري لأولاده الملابس الجديدة وهدايا العيد، ولا يصح فيها اليوم غير المال، وقد رأينا عشرات المرات المساكين يبيعون الحبوب لنفس التجار الذين اشترى منهم الأغنياء تلك الأصناف بثمن أقل، فهل شرعت زكاة الفطر لإغناء التجار على حساب الفقراء، وإضاعة وقت الفقير في عملية التبادل والمقايضة؟ وبوسع الفقير أن يشتري حبوبا بالمال دون خسارة، ولا يسعه أن يحصل على المال إن أخذ حبوبا إلا بالخسارة. إن القول بتعبدية الأصناف المذكورة في الحديث يوقعنا كمسلمين في حرج عدم مناسبة الإسلام لكل زمان ومكان. على أن الرافضين لدفع القيمة يلجؤون لتقصيد العبادة فلا يلتزمون بالأصناف الواردة في الحديث، ويقولون بإخراجها من غالب قوت البلد، وهو إقرار بالتعليل والتقصيد، وهو أساس ودليل دفع القيمة، غير أننا قلنا بالخروج عن الأصناف الواردة في الحديث إلى المال، وهم قالوا بالخروج عنها إلى غالب طعام أهل البلد.