القرآن الكريم وأمثال العرب

للمثل مكانة عظيمة وأهمية كبيرة عند العرب قبل الإسلام وبعده، فهو حكمتها، ودليل من أدلة بيانها وفصاحتها، وضرب من ضروب بديعها، وجوامع كلمها، وله تأثير قوي على النفوس الضالة، والقلوب النافرة، بما يقدمه من إعانة على الفهم، واستثارة للذهن، وتقريب للمعاني، وإبراز للحقائق، في صور بديعة، وألفاظ بليغة، لهذا دأب العلماء والأدباء في يتتبعون ما جاء في القرآن الكريم من أمثال العرب وحكمه، وألفوا في ذلك المؤلفات العديدة، وتنافسوا في ذلك نظرا لما للمثل من فوائد جليلة.

ويأتي كتاب: “الأمثال الكامنة في القرآن الكريم”  للحسين بن الفضل (ت282هـ) في رأٍ قائمة الكتب المؤلفة في هذا الباب، وقد رام صاحبه من خلاله أن يجمع بين الآيات القرآنية وأمثال العرب، يسأل عن المثل العربي ثم يجيب عن ذلك بما يوافقه من آي القرآن الكريم.

ومما جاء في الكتاب، أن أحدهم قال للحسين بن الفضل: إنك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن،فهل تجد في كتاب الله : خير الأمور أوسطها؟

قال: نعم ؛ في أربعة مواضع :

1) ” لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك “.

2) ” والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما “.

3) ” ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط”.

4) ” ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا “.

فقيل: فهل تجد: من جهل شيئا عاداه ؟ قال: نعم في موضعين:

1) “بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه”.

2) “وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم”.

فقيل : فهل تجد : احذر شر من أحسنت إليه؟ قال : نعم.. “وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله “.

قيل : فهل تجد : ليس الخبر كالعيان ؟ قال: نعم .. “أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي “.

قيل : فهل تجد : في الحركة بركة ؟ قال : نعم .. “ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة “.

قيل : فهل تجد: كما تدين تدان؟ قال: نعم .. “من يعمل سوءا يجز به “.

قيل : فهل تجد : حين تلقى ندري ؟ قال : نعم.. “وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا “.

قيل : فهل تجد : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ؟ قال : نعم .. “هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل “.

قيل : فهل تجد : من أعان ظالما سلط عليه ؟ قال: نعم .. “كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير “.

قيل: فهل تجد فيه : لا تلد الحية إلا حية ؟ قال: نعم .. “ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا “.

قيل: فهل تجد فيه : للحيطان آذان ؟ قال: نعم ..: “وفيكم سماعون لهم “.

قيل: فهل تجد فيه :الحلال لا يأتيك إلا قوتا، والحرام لا يأتيك إلا جزافا ؟ قال: نعم .. ” إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم “.

تفسير ألفاظ الرسالة القشيرية

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

نظرا لأهمية علم السلوك والأخلاق في تقويم سلوك الإنسان المؤمن، والسير به إلى بر الأمان، لينجو في الدنيا والآخرة، فقد اهتم علماء المسلمين بعلم التصوف والتزكية باعتباره علما يكتسب المؤمن معه حقيقة الصدق في التوجه إلى الله.

ومن بين أهم ما ألف في موضوع التصوف السني رسالة الإمام أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري الشافعي المتوفى سنة 465 هـ، وهي على أربعة وخمسين باباً وثلاثة فصول، وهذه خُلاصة ” تفسير ألفاظ الطائفة الصوفيّة ” المذكورة في الرسالة القُشَيْرِيّة، للإمام الأستاذ أبي القاسم القُشَيْريّ (ت 465 ه) رحمه الله.

 

  • (الوَقت) الوَقت: ما يَشتغلُ به العبدُ في الآن، ليس في الماضي ولا في المستقبل.
  • (الحال والمَقام) الحال : معنى يَرِدُ على القلب من غير تكلُّف، مثل حال القَبْض أو البَسْط أو الشَّوق أو الانزعاج أو الهَيبة أو غير ذلك، والمَقام : ما يَبلغه العبدُ من مستوى الآداب، بِسبيلِ التكلُّف والمُجاهَدة، مثل مَقام القَناعة أو التَّوكُّل أو التَّوبة أو الإنابة أو الوَرَع أو الزُّهْد أو غير ذلك، يقولون: الأحْوال مَواهِب والمَقامات مَكاسِب.
  • (القَبْض والبَسْط) القَبْض : حالُ خَوْفٍ آنٍ، والبَسْط : حالُ رجاءٍ آنٍ، وأحوالُ القَبْض والبَسْط تتفاوت حسب الوارِدات على القلوب.
  • (الهَيْبة والأُنْس) الهَيْبة : حال أعظم من القَبْض. وحَقُّها الغَيْبة عمّا سوى الله، والأُنْس : حال أعظم من البَسْط. وحَقُّه الصَّحْو بِحقّ الله، والنّاسُ تَتفاوتُ أحوالُهم في الهَيْبة والأُنْس.
  • (التّواجُد والوَجْد والوُجود) التّواجُد : استدعاءُ الوَجْدِ بِتَكلّف، والوَجْد أو المَوجِدة : ما يَرِدُ على القلب بِلا تَكلّف، والوُجود : ظُهور سُلطان الحقيقة في القلب بعد خُمود البشريّة، وحَقُّه بَقاء العبد بِالحقّ حالَ الصَّحْو، وفناؤُه بِالحقّ حالَ المَحْو، قالوا: المَواجيد ثَمرات الأوراد، أو: الوارِدات ثَمرات الأوراد، وقالوا: مَنْ لا وِرْدَ له بِظاهرِه لا وارِدَ له في سَرائرِه، وقالوا: مَن ازدادت وظائفُه ازدادت مِنَ الله لَطائفُه، وقالوا: المَواجيد ثَمرات العِبادات الباطِنة، والحَلاوات ثَمرات العِبادات الظّاهِرة، ومنهم مَنْ يَجعلُ المَواجيد تُرادِف الحَلاوات.
  • (الجَمْع والتَّفْرِقة) الجَمْع : حالُ شُهود العبد لِأفعالِ الله، التَّفْرِقة أو الفَرْق : حالُ شُهود العبد لِأفعالِه، وجَمْعُ الجَمْعِ يُرادِفُ عندهم الوُجود.
  • (الفَناء والبَقاء) الفَناء : تَرْك لِلأعمال المذمومة، والبَقاء : قِيام بِالأعمال المحمودة، يَقولون: فَنِيَ عَنْ شَهوتِه وبَقِيَ بِعُبوديّتِه، ويَقولون: فَنِيَ عَنْ سوءِ الخُلق وبَقِيَ بِالفُتُوّة والصِّدْق، ويَقولون: فَنِيَ عَن الخَلْق وبَقِيَ بِالحقّ، وهذا عندهم درجات: أعلاها يُرادِف الوُجود أو جَمْع الجَمع المذكورَيْن سابِقا.
  • (الغَيْبة والحُضور) الغَيْبة : غَيْبةُ القَلْبِ عَنْ عِلْمِ ما يَجري مِن أحوالِ الخَلْقِ، لِاشتغالِ الحِسِّ بِما وَرَدَ عليه، والحُضور : حُضورُ القَلْبِ بِالحقّ، أَيْ بِذِكْرِ الله، وعلى قَدْرِ هذه الغَيْبةِ يكونُ هذا الحُضور، قالوا: قد تَزدادُ غَيبةُ العبدِ عن إحساسِه بِنفسِه وغيرِه، بِواردٍ مِنْ تَذكّرِ ثَواب أو تَفكّر في عِقاب، حتّى تَصيرَ الغَيْبةُ إلى غَشْية، وقالوا: قد تكونُ الغَيْبةُ عن الإحساسِ بِالنّفسِ لِمَعنى يُلْهمه اللهُ لِعَبْدِه، وقالوا: غابَ عَن الخَلْقِ وحَضَرَ بِالحَقِّ.
  • (الصَّحْو والسُّكْر) الصَّحْو : رُجوع إلى الإحساس بعد الغَيبة. والسُّكْر : غَيبة بِوارِد قويّ في حالِ البَسْط، قالوا: مَنْ كان سُكْرُه بِحقّ كان صَحْوُه بِحقّ. وقالوا: مَنْ كان مُحِقّا في حالِه كان مَحفوظا في سُكْره، والسُّكْر عندهم درجات.
  • (المُعامَلات والمُنازَلات والمُواصَلات) المُعامَلات : أعمال العبادة الظاهر، المُنازَلات : أعمال العبادة الباطنة، المُواصَلات : دَوام صفاء المُعامَلات والمُنازَلات.
  • (الذَّوْق والشّرب والرِّيّ) الذَّوْق : ثمرة صفاء المعاملات الظاهرة، وحَقُّه التّساكُر. الشّرب : ثمرة صفاء المنازلات الباطنة، وحَقُّه السُّكْر. الرِّيّ : ثمرة دوام صفاء الظاهر والباطن، وحَقُّه الصّحْو بِالحقّ والفَناء عن كلّ حَظّ، قالوا: مَنْ صفا سِرُّه لمْ يَتكدّرْ عليه الشّرب.
  • (المَحْو والإثْبات) المَحْو : رفع أوصاف العادة الذميمة، بِحقّ سَتر الله. الإثْبات : إقامة أحكام العبادة الحميدة، بِحقّ إظهار الله. والمَحْو ثلاثة أنواع: مَحْو الزّلّة عن الظواهر، ومَحْو الغفلة عن الضمائر، ومَحْو العلّة عن السّرائر. وفيه إثبات المُعامَلات، والمُنازَلات، والمُواصَلات. والمَحْق فوق المَحْو، لأنّه لا يُبْقي أَثَرا.
  • (السَّتر والتَجلّي) السَّتر : حضور القلب دون مُكاشفة أو مُشاهدة. وحقّه النظر في الآيات. التّجلّي : ظهور أنوار المُكاشفة أو المُشاهدة في القلب. وحقّه الخشوع.
  • (المُحاضَرة والمُكاشَفة والمُشاهَدة) المُحاضَرة : حضور القلب بالذّكر والعقل، دون مكاشفة أو مشاهدة. وحقّها النظر في الآيات. المُكاشَفة : حضور القلب بِنعت البيان، دون افتقار إلى النظر في الآيات. وحقّها العِلم والبَسط والدّنوّ. وأما المَشاهَدة : وجود الحقّ من غير بقاء تُهمة. وحقّها الوجود أو جمع الجمع أو الفناء أو المَحو.
  • (اللّوائِح واللّوامِع والطّوالِع) اللّوائِح : ما يظهر من الكشف خلال المحاضرة (السّتر)، مرّة سريعا، كالبرق. اللّوامِع : ما يظهر من الكشف خلال المحاضرة (السّتر)، مرّة ثمّ مرّة، كالنجم. الطّوالِع : ما يظهر من الكشف خلال المحاضرة (السّتر)، مدّة بازغا، كالشمس.
  • (البَوادِه والهَواجِم) البَوادِه : ما يَرِدُ على القلب فجأة، وارِد فرح أو قرح. الهَواجِم : ما يَرِدُ على القلب جملة بِقوّة الوقت (حال الانشغال)، من غير تصنّع. ساداتُ الوَقت : من لا تغيّرهم البَوادِه والهَواجِم.
  • (التّلْوين والتّمْكين) التّلْوين : تغيّر العبد من حال إلى حال، زيادة أو نقصانا. التّمْكين : الثبات على الحال، قالوا: وأعلى التّمْكين: حال الوصول والاتّصال بِحال الحقّ. وأَمارَتُه انخِناس أحكام البشريّة واستيلاء سلطان الحقيقة. وهو بذلك قد يُرادِف المَحو والوجود وجمع الجمع والفناء.
  • (القُرب والبُعد) القُرب : نوعان: قرب بالفرائض، ثمّ قرب بالنوافل. البُعد : نوعان: بعد عن التوفيق (عن الطاعة)، وبعد عن التحقيق (عن العِرفان). ومن ثمرات القُرب: الاتّقاء، ثمّ الوَفاء، ثمّ الحَياء، وقُرب الحقّ سبحانه من العبد ثلاثة أنواع: من الناس عامّة بِالعِلْم والقدرة، ومن المؤمنين باللطف والنصرة، ومن أوليائه بخصائص التّأنيس والتّحبيب والتّفهيم والتّأييد. وقُربه سبحانه يوم القيامة: بستر الذنوب، والإذن بالنّظر إليه. قالوا: رؤية القُرْب حِجابٌ عن القُرب.
  • (الشّريعة والحَقيقة) الشّريعة : قيامٌ بما أَمَرَ (العبودية). والحَقيقة : شُهود لما قضى وقَدّر (الربوبية). والشريعة حقيقة لأنّ الشرائع حُقّت بأمر الله، والحقيقة شريعة لأنّ المعارف شُرعت بأمر الله.
  • (النَّفَس) فالنّفَس: تَرويح القلوب بِلطائف الغيوب. ومَحلّه السّريرة، وهو أرقى من الحال، والحال أرقى من الوقت، قالوا: أفضلُ العبادات عَدّ الأنفاس مع الله تعالى.
  • (الخاطِر والوارِد والشاهِد) الخاطِر : خِطاب يَرِدُ على الضمائر. وهو أربعة أنواع: الهاجِس: من النّفس. وهو مِلحاح، والوسواس: من الشيطان. وهو رَواح. (إلى غيره) والإلهام: من المَلَك. قد يُخالفه العبد، وخاطِر الحقّ: من الله. لا يُخالفه العبد، قالوا: كلّ خاطِر لا يَشهد له ظاهِر فهو باطل، وقالوا: مَنْ كان أكلُه من الحرام، لمْ يُفرّق بين الوسوسة والإلهام، والروح لا تُخاطِب. والوارِد نوعان: وارِد خاطِر، ووارِد حال، وارِد الخاطِر: ما يَرِد على القلوب من الخواطر المحمودة، وارِد الحال: ما يرد على القلوب من أحوال: خوف، رجاء، قَبْض، بَسْط. فالوارِدات أعمّ من الخواطِر من جهة الأحوال، والخواطِر أعمّ من الوارِدات من جهة الخواطِر المذمومة، والشاهِد : ما كان حاضرَ قلب العبد بِالذّكر والعقل. يُقال: فلان بِشاهد العِلم، فلان بِشاهد الوَجْد …
  • (اليَقين وعِلم اليَقين وعَين اليَقين وحقّ اليَقين) اليَقين : العِلم دونَ رَيْب، عِلم اليَقين : هو اليَقين، بِشرط البُرهان، عَين اليَقين : هو اليَقين، بِشرط العِيان، حقّ اليَقين : هو اليَقين، بِشرط العِرفان/ بِشرط الإيمان.
  • (القَلْب والنّفْس والرُّوح والسِّرّ) tالقَلْب : مَحلّ المَعار، والنّفْس : مَحلّ الأوصاف المذمومة. مثل: الكِبْر والحَسد، وأما الرُّوح : مَحلّ الأوصاف المحمودة. مثل: المحبّة، والألفة، وأما السِّرّ : مَحلّ المُشاهدة. ويُطلَق على ما يكون خفيّا بين العبد وربّه. قالوا: السِّرّ ألطف من الرُّوح، والرُّوح أشرف من القلْب، ويقولون: الأسرار مُعْتَقة عن رِقّ الأغيار، ويقولون: صُدور الأحرار قُبور الأسرار، ويقولون: السّرّ ما لَك عليه إشراف، وسِرّ السّرّ ما اطّلع عليه الحقّ وحده سُبحانه.

والحمد لله ربّ العالمين.

أسامة بن محمد الكيحل
1444 هـ – 2023 م
تمارة، المغرب.

لماذا نصوم ؟ (2): البعد الإنساني في الصوم

في مقالنا السابق أكدنا أن وجود الأثر العميق للتدين في واقعنا لا يتحقق إلا بالتأكيد على أهمية عرض الإسلام وأحكامه في عصرنا عرضا علميا ومقاصديا، يبرز الحكمة والقصد من التشريع، وأكدنا على أن شهر رمضان أصبح يمارس عند غالبية الناس على نحو يجرده من روحه الدينية العميقة المبنية على الفاعلية وعمق الاختيار، وليس على المفعولية وتقليد أهل الدار.

كما تناولنا في المقال السابق أيضا الحِكمة والمقصد الأول من ركن الصيام، وهو البعد الإنسانية، حيث تتجلى بوضوح مشاركة الصائم للآخرين الهموم ومتاعب الحياة، والعمل على التخفيف عن المقهورين، ومساندة المغلوبين، وبينا بكل أسف أن ممارسة المسلمين اليوم في شهر رمضان، لا تعكس مع الأسف الشديد روح الإنسانية في الإسلام، بدليل ارتفاع نفقات الطعام والشراب لدى الصائم، والإكثار من الاستهلاك الكمي والنوعي، إن على مستوى الطعام أو على مستوى إنتاج البرامج الإعلامية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، في وقت يعاني منه العالم الإسلامي سورة في توزيع الثروات، وهشاشة مادية وفكرية كان من المكن أن يكون شهر مضان رافدا من روافد معالجتها وتجاوز تحدياتها.

وبعد مقصد البعد الإنساني للصيام نقترح أن نعرض في هذا المقال إلى المقصد الثاني في سلسلة مقاصد الصيام، ألا وهو مبدأ الحرية والتحرير.

فالصيام مدرسة لترسيخ حرية الإنسان من شهوات ذاته وكبح جماح الرغبات السلبية لنفسه، ليتعلم كيف يقود الذات، ويتحكم في قيادتها نحو العطاء، ومعنى ذلك أن الصوم يبني الإنسان من جديد، ويساهم في تجديد العنصر الأول في إنشاء العمران
وحين أن الإنسان حينما ينجح في تجاوز شهوة نفسه، ويتمكن من تحقيق التوازن في القلب والقالب، والفكر والجسد، والمادة والروح، فإنه يصبح إنسانا مؤهلا للفعل الحضاري والبناء العمراني من زاوية الفاعلية.

يقول الدكتور مراد هوفمان: (وبالنسبة لي لعل أهم أثر جانبي لصوم رمضان أن اختبر ما إذا كنت ما أزال سيد نفسي أم أننى صرت عبدا لعادات تافهة، وما إذا كنت ما أزال قادراً على التحكم في نفسي أم لا؟ وأتمنى أن يكون فرحا وليس غرورا ذلك الذي أشعر به بعد انتهاء آخر أيام رمضان أي عند صلاة المغرب، من أننى استطعت بعون الله أن أصومه).

عندما أرقب إدمان المسلمين في رمضان للبرامج الإعلامية الترفيهية التافهة بل والهادمة للقيم، وانشغالهم بها عن اغتنام ساعات رمضان الغالية، أقول: هل استطاع صيامنا أن يبنينا ويعيد ولادتنا من جديد كما هو مطلوب؟!
إن الصائم إذا نجح بالصيام في تحرير نفسه من هواها، صار قادرا على البناء والتغيير المنشود.

من المهم أن يتعلم الصائم كيف يختار وهو حرّ.. ومن المهم جدًا أن يكون تعلّم كيف يختار نتائج حريته بوعي، فالمستقبل قابع في نوعية اختيارات اليوم، ولا مجال للانخداع بمجرد أننا نقوم بعملية اختيار ما، فهذا شأن غير الواعين بحقيقة الحرية ومعالم ممارستها.

لماذا نصوم ؟ (1): البعد الإنساني في الصوم

شهر رمضان خير ما يفرح به المؤمن ، كيف لا ؟ وقد مدَّ الله له في عمره ليبلغه هذا الشهر الكريم ليكون فرصة لرفع الدرجات وزيادة الحسنات وتحقيق المقاصد والغايات.

كان النبي صلى الله عليه وسلم يفرح إذا دخل رمضان، وكان من هَديه -عليه الصلاة والسلام- توجيه الناس إلى خيرَي الدُّنيا والآخرة، وحَثّ الناس على استغلال أوقات هذا الشهر بحَثّهم على فِعل الخيرات، وتشجيعهم على الإكثار من الطاعات.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستعد لرمضان، وينير المساجد بالقناديل، وجمع الناس على صلاة التراويح لقراءة القرآن، وبعد موته قال علي بن أبي طالب: نوّر الله لك يا ابن الخطاب في قبرك كما نوّرت مساجد الله بالقرآن.

شهر رمضان فرصة ذهبية عظيمة يحرص عليها العاقل، ويشمّر لها الفطن، كان يحيى بن أبي كثير يدعو ويقول: “اللهم سلمنا إلى رمضان وسلم لنا رمضان وتسلمه منا متقبلا”، ويقول الحسن البصري رحمه الله: “إن الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا! فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون! ويخسر فيه المبطلون!”.

وربّ سائل يسأل لماذا نصوم؟
وهو سؤال وجيه يتكرر كثيرا على ألسنة الشباب والمهتمين، في عصر نشأ الناس في بيئة مفتوحة، والتي تريد أن تعقل كل شيء ولا تقبل الفكرة قبل معرفة المقصد والحكمة.

والملاحظ أن القرآن الكريم حافل بذكر العلة والغاية وبيان الحكمة من أحكام التشريعات، فقد بين أن الحكمة من الصيام تحقيق التقوى فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة: 183، وأن الحكمة من الصلاة الذكر والصلة بالله، فقال: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} العنكبوت: 45، وأن مقصد الزكاة والصدقة تطهير النفس من الشح فقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} التوبة: 103، وأن الحكمة من الحج ذكر الله وشهود المنافع وتحقيق المنافع الحسية والمعنوية فقال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} الحج: 28.

وإننا نعتقد أن الخطاب الديني اليوم بحاجة ماسة إلى تجديد وسائله وطرق عرضه للدين وشريعته، عبر اعتماد خطاب يؤكد على روح الشرع وفلسفة الأحكام وعلتها، في وقت بدأ التشكيك في المسلّمات الدينية، وانتشرت الأفكار التي تضع كل شيء تحت البحث ومجهر المختبر.
ونحن نؤمن أن أحكام الدين كلها مبنية على الحكمة ومعقول المعنى، لكنها حكمة تظهر لأناس وتخفى على غيرهم، مما يستوجب إدامة البحث واستخدام النظر والبحث.

ومما يؤسف له أن موروثنا الفقهي، وحاضر الخطاب الديني طغى عليه التركيز على صور العبادات وتصحيح أشكالها ومبانيها، على حساب بيان روحها ومعانيها، وقد نتج عن هذا غياب أثر العبادة وروحها في واقع المسلمين، وأصبح الناس يمارسون مختلف العبادات كالصلاة والصوم والحج وغيرها على نحو يجردها من مغزاها وبعدها الحقيقي، وأصبحت جزءا مظهريا متحررا من روح الشريعة وإنسانية الإنسان.

وعودا على السؤال المطروح في عنوان هذه المقالة، لماذا نصوم ؟

نقول إن مقاصد الصيام التي تؤكد على حقيقته وإعجازه وصلاحيته كثيرة، نضع بين أيدي القارئ بعضا منها، لتكون للمؤمن سببا لزرع الطمأنينة والثقة في دينه ليزداد إيمانا، {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} البقرة: 260ـ وتكون كذلك لغير المؤمن سببا في الانفتاح على دين الإسلام بطريقه تعتمد التفكير عوضا عن التقليد في الحكم له أو عليه.

وحِكم الصيام ومقاصده كثيرة يمكن أن نتدارس اليوم حكمة نطلق عليها مقصد الصوم الإنساني، وذلك أن يجوع الصائم ويجاهد نفسه لبعض الأوقات فيتولد بذلك عنده الشعور بمن يجوع كل الأوقات، وتكون نتيجة ذلك الإحساس السعي إلى مدّ يد العون إلى الجائعين ومحاربة كل أشكال التمييز المادي في المجتمع، وتحقيق المساواة بين الناس، خصوصا إذا علمنا أن البشرية تفقد كل يوم حوالي 21 ألفا يموتون بسبب الجوع، جزء مهم منهم في العالم الإسلامي.

إننا نؤكد أن المقصد الإنساني حاضر في روح دين الإسلام في كل العبادات، ففي الصلاة تحضر مساواة الأجسام لا يتقدم إنسان على إنسان، فالكل سواء، وفى الصوم مساواة البطون، لا يمتاز فيها بطن على بطن، وفى الزكاة مساواة في الأموال لا تمتلئ في جيب وتفقر منها في جيب، وفى الحج مساواة في اللباس لا يتميز لباس عن لباس.

ومعنى ما سبق أن إنسانية الإسلام ظاهرة واضحة في تشريعات الصوم وأحكامه، غير أن واقع المسلمين وممارساتهم اليوم في شهر رمضان، لا تعكس حضور هذا المعنى؛ فقد أصبح شهر رمضان أكثر شهور السنة التي ينفق فيها على الطعام والشراب، حتى صارت بطون الصائمين تتألم من كثرة الطعام بعد الإفطار.

في شهر رمضان اليوم يرتفع استهلاك الأغذية بدلا من أن ينخفض، أما ما ينخفض بالتأكيد فهو مردودية الإنتاج والعمل.
إن إنسانية الإسلام ظاهرة واضحة في تشريع الدين الإسلامي وأحكامه، غير أن المسلمين اليوم لم ينجحوا في تجسيد هذه القيم والحكم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان.

وإنني لأتساءل بحق، ماذا لو رفع المسلمون في العالم شعار: (أجود الناس) وقاموا بجمع الأموال الفائضة عنهم في الإنفاق على الطعام خلال شهر رمضان، وإيصالها للجائعين والفقراء والمحتاجين وعالجوا الهشاشة والفقر المستشريين في عالمنا الإسلامي.

مؤسسة محمد السادس لنشر المصحف الشريف

الإثنين 8 رجب 1444 / 30 يناير 2023

المهام الرئيسية:

تتولى مؤسسة محمد السادس لنشر المصحف الشريف المهام التالية:

  • القيام، بأمر إعادة نسخ المصحف الشريف برواية ورش عن نافع وفق القواعد المعتمدة في علوم الرسم والوقف والضبط والقراءات.
  • الإشراف على طبع المصحف الشريف، والعمل على نشره وتوزيعه.
  • الإشراف على تسجيل تلاوة المصحف الشريف ولاسيما برواية ورش عن نافع عن طريق استعمال مختلف أنواع الدعائم المتعددة الوسائط.
  • الترخيص للأشخاص الذاتيين والاعتباريين الراغبين في طبع المصحف الشريف أو في توزيعه.
  • القيام بأعمال المراقبة والتدقيق للنسخ المطبوعة أو المسجلة من المصحف الشريف، لضمان سلامتها من الأخطاء، وللتأكد من حصولها على الترخيص المشار إليه في البند 4 أعلاه، واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لحجزها ومنعها من التداول عند الاقتضاء، علاوة على حفظ حق المؤسسة في اتخاذ الإجراءات القضائية اللازمة تطبيقا للقوانين الجاري بها العمل.
  • إقامة علاقات تعاون مع المؤسسات والهيئات العامة والخاصة على الصعيدين الوطني والدولي قصد مساعدة المؤسسة على تحقيق أهدافها.

الظهير المؤسس

الظهير الشريف رقم 1.09.198 الصادر في 8 ربيع الأول 1431 (23 فبراير 2010)

للاتصال بالمؤسسة

  • العنوان: زاوية شارع عبد الله ابن ياسين وزنقة ابن زيدون، المحمدية
  • الهاتف: 05.23.31.85.10
  • الفاكس: 05.23.31.85.11
  • الموقع الالكتروني: http://mushafmohammedi.com

فضل العفو والإصلاح بين الناس

سنتطرق في هذه المقالة -بإذن الله- إلى موضوع مهم نحتاجه جميعا بلا استثناء، وما ذاك إلا لأنه انتشر بين الناس، وعمت الفرقة بينهم، حتى دب الأمر إلى الأسرة الواحدة، بل إلى الولد مع أبويه فضلا عن الجيران والأقارب، إنها النفرة، وفساد ذات البين بين الناس، ولو فتشت عن سبب القطيعة والنفرة لوجدته هينا، ولكن الشيطان نفخ فيه وفخمه، وباعد بين الطرفين، ولضعف الإيمان وجد الشيطان قابليةً له بين الناس فأصبح يحرش بينهم، ويفرق الأواصر، ويقطعها.

أخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر، قال صلى الله عليه وسلم: “إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم”، يعني قدر على التحريش، ونجح فيه.

الناس في الفرقة والقطيعة بين اثنين ظالمٍ معتد، ومظلومٍ معتدى عليه، ويعظم الاعتداء والظلم من شخص لآخر، فيبدأ بكلمة لا تليق، وينتهي بالقتل، فإذا دبت الفرقة بين الطرفين دخل الشيطان بينهما؛ فإن كان سبب الخلاف من أمور الدين، فلا صلح بين الطرفين إلا بالدين، بأن ينزع العاصي، ويزول المنكر، وأما إن كان السبب من أمور الدنيا، فالهجر بينهما محرم لا يجوز وخيرهما الذي يعفو ويصفح، ويبدأ بالسلام.

أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث أبي أيوب قال صلى الله عليه وسلم: “لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام”.

أسباب الهجر ووقوع الخلاف:

للهجر بين الناس ولوقوع الخلاف بينهم في مجتمعنا أسباب وعوامل؛ فمن أهمها:

  1. إطلاق اللسان بالكلام على عواهنه بلا تروٍ يفسد بين الناس؛ كما قال تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾ [الإسراء: 53]، فمن لم يتكلم بالتي هي أحسن فإن الشيطان ينزغ بينهم بالإفساد والقطيعة، حتى ولو لم يكن المتكلم يقصد ما وقع في قلب الآخر، بل إن مجرد كثرة الكلام مع الآخرين خصوصا إذا مزجت بالمزاح يدس فيها الشيطان ما يفسد العلاقة، ويوغر الصدور.
  2. العتاب بالكلام الذي يقع بين المسلمين أمام الناس، فإنه يوغر الصدور، ويطيل زمن الفرقة، وللشيطان فيه نصيب كبير.
  3. سوء الظن بالآخرين، فتجد المرء يحمل كلام أخيه على أسوء المحامل، مع أنه يجد لها في الخير محملا.
  4. ضيق النفس، وعدم التحمل، والواجب على الجميع أن يعفوَ ويصفح? عن زلات أخيه، ولو أخطأ عليه، وعليه أن يجعل مناصحته له تكون سرا، فكما أنك قد تزل أحيانا بما لا يليق، فالناس كذلك يزلون، فلتتسع صدورنا للآخرين، ولنمح زلاتهم، فعما قليل يراجعون.
  5. سوء الخلق من البعض، فبعض الناس يعيش بأخلاق سيئة، فلا يحتمله الناس ولا يقبلونه، وتجده في عداء مع الكثير من الناس، فمن أحب أن يقل شانؤوه، ويكثرَ محبوه، فليحسن خلقه، وليبدأ بالكلمة الطيبة، وليتجنب ألفاظ السوء، فضلا عن أفعاله، فإن المسلم مطالب أن يحسّن معاملته في كل شيء، بدأ بمعاملته مع الله -سبحانه- في أدائه لعباداته، ونهاية بالحيوانات، قال تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195].
  6. نقل الكلام بين الناس، ألا وهي النميمة، فالنمام يفسد في ساعة مالا يفسده الساحر في سنة، ولهذا حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- منها، وسماها العَضْه، أخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود مرفوعا: “ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة القالة بين الناس”، وصدق الله العظيم القائل: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء: 114].
  7. مخالفةُ الهدي النبوي في المعاملة بين الناس، وذلك كمناجاة الرجلين دون الثالث، وعدم إجابة الدعوة، وعدم إفشاء السلام، وعدم التواصل والزيارة، خصوصا للمرضى والمحاويج.

دور التقريب وأهمية العفو:

لا بد من الإشارة إلى أن أحسن الناس من كان مفتاحا لكل خير، مغلاقا لكل شر، يسعى بين الناس للإصلاح، وذلك من أعظم الطاعات، فلقد كان من شأن النبي -صلى الله عليه وسلم- الإصلاح بين الناس، ومن عظيم فضل الإصلاح بين الناس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أباح الكذب فيه، أخرج البخاري ومسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة مرفوعا: “ليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس، فينمي خيرا ويقول خيرا”.

وفي الجهة المقابلة يجب علينا عندما يخطئُ علينا أحدٌ من الناس أن نسعى إلى العفو والصفح؛ لأننا نرجو ثواب الله، ونغلب جانب الخير فيمن أخطأ علينا، ونتذكر حسناته الكثيرات، ونسمح عن السيئات القليلات في حقنا، ولنعلم أن من صفات الله أنه العفو؛ كما قال تعالى: ﴿إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ [النساء: 149].

ولهذا كان من أعلى خصال النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يعفو عمن ظلمه، وهكذا الصحابة من بعده فمن القصص التي سطرها التاريخ وكتب أهل العلم عن عفو النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس قال: كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: “مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء”.

أخرج البخاري في صحيحه من حديث عبد الله -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم حنين آثر النبي -صلى الله عليه وسلم- أناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عُدل فيها، وما أريد بها وجه الله، فقلت: والله لأخبرن النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتيته فأخبرته، فقال: “فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر”.

وإن ننسى من المواقف الكثيرة، فلا ننسَ عفوه عن أهل مكة عندما فتحها، فهؤلاء القوم هم الذين طردوه من بلده، وسبوه، وسبوا ربه، وصدوا عن سبيل الله، ووصفوه بكل وصف قبيح، فلما قدر عليهم، قال: “أذهبوا فانتم الطلقاء”.

ومن عفو أصحابه من بعده: قصة أبي بكر مع مسطح بن أثاثة الذي خاض في عرض عائشة، وقذفها بالزنا، وكان أبو بكر ينفق عليه، فلما فعل ما فعل قطع النفقة عنه وحلف أن لا يعطيه بعدها شيئا، فأنزل الله: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النــور: 22] فلما سمعها أبو بكر رد النفقة عليه، وكفر عن يمينه، وقال: “بلى، والله إني أحب أن يغفر الله لي” [والحديث في البخاري]، ومن فوائد هذا الحديث: أن من أراد أن يعفو عنه الله فليعف عن الناس، فالجزاء من جنس العمل.

إن الذي يصدر منه الخطأ تجاهنا لا يخلو من أن يكون عاقلا، فهذا نحتمل خطأه لعقله، أو حاسدا، فهذا نعرض عنه ليحرق قلبه، أو جاهلا، فهذا نعرض عنه لنسلم من شره؛ كما قال الأول:

يزيد سفاهة فأزيد حلما *** كعود زاده الإحراق طيبا

وقال الآخر:

إذا نطق السفيه فلا تجبه *** فخير من إجابته السكوت

إن الذين يصرون على هجران إخوانهم بسبب ملاحاة بينهم، أو سوءِ عشرة، هم يطيعون الشيطان، ويعصون الرحمن، فضلا على أنهم يحرمون أنفسهم من خير عظيم، وهبه الله للناس في كل أسبوع؛ أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعا: “تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين: يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبدا بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا”.

ونحتم بالدعوة إلى ضرورة مراجعة أنفسنا، ومواصلة كل من قاطعناه من أجل الدنيا، فالدنيا فانية، وليست بأهل أن يتشاجر عليها الناس.

فوائد المحن والابتلاءات

اقتضت حكمة الله -تعالى- أن لا يخلق شرًّا محضًا، بل أودع الله فيما يظنه العبد شرًّا خيرًا كثيرًا، والمؤمن العارف بربه يستطيع أن يغيِّر النقم إلى نعم، ويستبدل المحن بالمنح؛ لذا كان العارفون يفرحون بالبلاء كما يفرح الواحد منا بالرخاء؛ لما تنكشف مع البلاء والاقدار الحكم والأسرار، وصدق -سبحانه وتعالى- القائل: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء:19)، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ابتلاء الأنبياء والصالحين بالمرض والفقر، وغيرهما، ثم قال: (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَاءِ، كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ) (رواه ابن ماجه)، وقال وهب بن منبه -رحمه الله-: “إن مَن قبلكم كان إذا أصاب أحدهم بلاء عدّه رخاءً، وإذا أصابه رخاء عدّه بلاء”، وقال بعض علماء السلف: “يا ابن آدم نعمة الله عليك فيما تكره أعظمُ من نعمته عليك فيما تُحبّ”.

ومِن أعظم فوائد المحن أنها تظهر لنا قدر النعمة، وتوقظ العبد من غفلته، وتهمل على تطوير مهاراته، وتجديد حياته، فكثيرا ما ينسى المرء نعما جزيلة عنده، بسبب زحمة الحياة والانهماك في دروبها ودياجيرها؛ وتأتي المحن لتوقظ النائم، وتقيم الغافل، قال -تعالى-: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف:168)، والمعنى: بلوناهم بالنعم والمصائب؛ ليرجعوا إلى ربهم، وينيبوا إليه، ويتوبوا عن معاصيه، قال سفيان بن عيينة -رحمه الله-: “ما يكره العبدُ خيرٌ له مما يحب؛ لأن ما يكرهه يهيجه للدعاء، وما يحبه يلهيه”.

ومِن فوائد المحن: أنها تعرِّف العبد حقيقةً الدنيا، وأنها طبعت على كدر، وأنها بين لحظة وأخرى تنقلب على صاحبها، قال -تعالى-: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد:20).

ومِن فوائد المحن: أنها تكفِّر الذنوب والخطايا، وتقرب العبد من رب العباد، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ) (متفق عليه)، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال بعض السلف: “لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة من المفاليس”.

ومِن فوائد المحن: أنها تطهر القلوب وتنقي النفوس، قال ابن القيم -رحمه الله- في كتاب زاد المعاد: “لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة، وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلًا وآجلًا، فمِن رحمة الله -أرحم الراحمين- أن يتفقده في الأحيان بأنواع أدوية المصائب تكون حمية له مِن هذه الأدواء، وحفظًا لصحة عبوديته، واستفراغًا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه، فسبحان مَن يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه! فلولا أنه -سبحانه- يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء؛ لطغوا وبغوا وعتوا، والله -تعالى- إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا سقاه دواءً مِن الابتلاء والمحن على قدر حاله، يستفرغ به من الأدواء المهلكة مراتب الدنيا، وهي عبوديته، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه”.

ومِن فوائد المحن: أنها تذكر حال أهل البلاء، فالإنسان لا يعرف قيمة النعمة التي أنعم الله عليه فيها إلا إذا شاهد أهل البلاء؛ فكم أقامنا الله وأقعد غيرنا، وكم أصحنا وأمرض غيرنا، وكم عافانا وابتلى غيرنا، فإذا تعرض الإنسان للمرض عرف قيمة النعمة التي أنعم الله بها عليه؛ فأدَّى ذلك إلى شكره -سبحانه وتعالى-، وتذكر حال أهل البلاء فدعا الله لهم وله بالعافية، قال أحدهم: « إنما يعرف قدرَ الماء منْ ابتُلي بالعطشِ في الباديةِ، لا منْ كانَ على شاطىء الأنهار الجارية».

ومِن فوائد المحن -ولعلها أهمها-: استخراج عبودية الضراء (الصبر)، قال الله -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة:155)، فالله يبتلي عباده ليختبرهم ويمتحنهم، فيستخرج منهم عبودية الضراء، وهي “الصبر”، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَه) (رواه مسلم)، قال عبد الملك بن أبجر -رحمه الله-: “ما مِن الناس إلا مبتلى بعافية؛ لينظر كيف شكره أو بلية لينظر كيف يصبر”، وقال بعض السلف: “لولا حوادث الأيام لم يعرف صبر الكرام، ولا جزع اللئام”.

علم عد آي القرآن الكريم

علم عد الآي: علمٌ من علوم القرآن المهمة، وهومن العلوم التي نقلها لنا أئمة هذا العلم، بسندهم عن رسول الله ﷺ.
.
تعريف علم عد الآي: علم يبحث فيه عن أحوال آيات القرآن الكريم من حيث عدد الآيات في كل سورة، وبيان رأس الآية وخاتمتها، مَعزوًّا لناقله.
فوائد تعلم هذا العلم:
1) يُحتاج إليه لصحة الصلاة؛ فقد قال الفقهاء فيمن لم يحفظ الفاتحة بأن يأتي بدلها بسبع آيات.
2) اعتباره سببًا لنيل الأجر الموعود به على تعلّم عدد مخصوص من الآيات، أو قراءتها، مثل حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْمُقَنْطِرِينَ) صححه الألباني في صحيح أبي داود.
3) اعتباره لصحة الخطبة؛ فقد أوجبوا فيها قراءة آية كاملة.
4) اعتباره في الوقف المسنون؛ إذ الوقف على رؤوس الآي سنّة؛ كما في حديث أمّ سلمة كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ”
وقد روي عن عمرو بن العلاء -رحمه الله- أنه كان يتعمَّد الوقوف على رؤوس الآي، ويقول: هو أحبُّ إليَّ، فقد قال بعضهم: إن الوقف عليه سنَّة.
وقال البيهقي -رحمه الله-  في الشعب: الأفضل الوقوف على رؤوس الآيات، وإن تعلقت بما بعدها؛ اتِّباعا لهَدي رسول الله ﷺ وسنَّته.
وإذا لم يكن للقارئ خبرة بهذا الفن، فلا يتأتى له معرفه الوقف المسنون، وتمييزه من غيره.
5) اعتباره في باب الإمالة؛ فإن ورشًا، وأبا عمرو في رؤوس آي السور الإحدى عشر: (طه، والنَّجْمِ، والمعارج، والقِيامَة، والنّازِعات، وَعَبَسَ، والأَعْلَى، والشَّمْس، واللَّيْل، والضُّحَى، والعَلَق) يقللانها قولًا واحدًا، فلو لم يعلم القارئ رؤوس الآي عند المدني الأخير، والبصري فلا يستطيع معرفة ما يقللان باتفاق، وما يقللان بالخلاف.
6) الاحتياج إليه في معرفة ما يُسنّ قراءته بعد الفاتحة في الصلاة؛ فقد نصوا على أن من السنة قراءة ثلاث آيات قصار، أو آية طويلة، وفي الصحيح أن النبي ﷺ كان يقرأ في الصبح بالستين إلى المائة.
توضيح المراد بالاختلاف في عدّ الآي: الاختلاف في علم عدّ الآي يراد به الاختلاف في تحديد موضع انتهاء الآيات، ولا يعني زيادة آيات، أو نقصها، أو زيادة ألفاظ، فسورة الإخلاص مثلًا أربع آيات في العد المدني الأول، والعد المدني الثاني، والعد البصري، والعد الكوفي، وخمس آيات في العد المكي، والعد الشامي، وخلافهم  في قوله تعالى:  {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} هل هي آية أم آيتان؟ فمن عدّها آية واحدة، فالسورة عنده أربع آيات، ومن عدها آيتين فالسورة عنده خمس آيات.
أهل العدد ستة: وهذ العدد موافق لعدد المصاحف التي وجه بها سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلى الأمصار، وتفاصيلها كما يلي:
1- العدّ المدني الأول: وهو ما يرويه نافع، عن شيخيه أبي جعفر، وشيبة بن نصاح؛ ويرويه الكوفيون عنهم، دون تعيين أحد منهم بعينه، وهو العد الذي اعتمدناه لقالون، وأبي جعفر.
واختلف عنه في “فعقروها” من قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا}[الشمس: 14] ، وقد اعتمدنا عده له.
2-  العدّ المدني الأخير: هو ما يرويه إسماعيل بن جعفر، وقالون، عن سليمان بن مسلم بن  جماز، عن شيبة، وأبي جعفر،
3- العدّ المكي: ما رواه عبد الله بن كثير، عن مجاهد بن جبر، عن ابن عباس -رضي الله عنه-، عن أبيّ بن كعب -رضي الله عنه-، عن رسول الله ﷺ، وهو العد الذي اعتمدناه لابن كثير.
– وقد اختلف عن المكي في “المسلمين” من قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ}[الحج: 78]، وقد اعتمدنا عدها له.
– واختلف عنه في “قريبا” من قوله تعالى: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا}[النبأ: 40]، وقد اعتمدنا عدها له.
– واختلف عنه في “فعقروها” من قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا}[الشمس: 14]، وقد اعتمدنا عدها له.
4- العدّ البصري: ما يرويه عاصم الجحدري، وأيوب بن المتوكل، ويعقوب الحضرمي، وهو العد الذي اعتمدناه لأبي عمرو البصري، ويعقوب الحضرمي.
وقد اختلف عن البصري في “أقول” من قوله تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ}[ص: 84]،  وقد اعتمدنا عدم عدها له.
5- العد الكوفي: ما رواه حمزة الزيات، عن ابن أبي ليلى، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وسفيان الثوري، عن عبد الأعلى، عن  أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وهو العد الذي اعتمدناه لعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف في اختياره.
6- العدّ الدمشقي: وهو ما رواه يحيى بن الحارث الذماري، عن عبد الله بن عامر، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه-، وهو العد الذي اعتمدناه لابن عامر.
وبعضهم يزيد عدًّا سابعًا هو العد الحمصي: وهو ما رواه شريح بن يزيد، مسندًا إلى خالد بن معدان.
مؤلفات في هذا العلم: هناك مؤلفات كثيرة أُلّفت في علم عدّ الىي نذكر منها: (البيان في عدّ آي القرآن) للإمام أبي عمرو الداني، و(ناظمة الزهر) للإمام أبي القاسم الشاطبي، و(حسن المدد) للإمام برهان الدين إبراهيم بن عمر الجعبري، و(سعادة الدارين في بيان وعد آي معجز الثقلين) لمحمد بن علي بن خلف الحداد الحسيني، و(القول الوجيز في معرفة فواصل الكتاب العزيز) لرضوان بن محمد بن سليمان أبو عيد المخللاتي، و(الفرائد الحسان) لعبد الفتاح بن عبد الغني القاضي، و(مرشد الخلان إلى معرفة عد آي القرآن في شرح الفرائد الحسان) لعبد الرزاق علي موسى، وغيرها.

الحج مقاصد وأسرار

إن الحج من أوَّله إلى آخره، وفي كل خطوة من خطواته، حافل بكثير من المناسك والمواقف التي تشعر الإنسان بعظمة الله وقدرته، وتتجلى فيها الحكم والأسرار لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وفي كل واحدة من هذه المناسك تذكرة للمتذكر، وعبرة للمعتبر.. وهذه بعض أسرار الحج وحكمه:

 

الحج والإحرام:

في الإحرام تظهر المساواة بين جميع المسلمين حاكمهم ومحكومهم، غنيهم وفقيرهم، ومظهر الحجاج في لباس الإحرام يمثل البعث في الحياة الآخرة، ويكشف عن أن الدنيا الزائلة لا يليق أن تصرف مفاتنها العاقل المؤمن عن الاستعداد للحياة الباقية.
وهو في حقيقته تجرد من شهوات النفس والهوى، وحبسها عن كل ما سوى الله وعلى التفكير في جلاله.

الحج والتلبية:

في التلبية إجابة نداء الله عز وجل، فارجُ أن تكون مقبولاً، واخش أن يقال لك: لا لبيك ولا سعديك. فكن بين الرجاء والخوف مترددًا، وعن حولك وقوتك متبرئًا، وعلى فضل الله -عز وجل- وكرمه متكلاً. وليتذكر الملبي عند رفع الصوت بالتلبية إجابته لنداء الله عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]. وانقياد الخلق بنفخ الصور، ونشرهم من القبور، وازدحامهم لعرصات القيامة مجيبين لنداء الله، وهذه التلبية شهادة على تجرد النفس من الشهوات والتزامها الطاعة والامتثال.

الحج والطواف:

ينبغي أن يُحضر في قلبه التعظيم والخوف والرجاء والمحبة، والحاج في الطواف متشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش، الطائفين له، وليس المقصود هو طواف الجسم بالبيت فحسب، بل المقصود هو طواف القلب بذكر رب البيت، حتى لا يبتدئ الذكر إلا منه، ولا يختم إلا به، كما يبتدئ بالبيت ويختم به.
والطائفون في عملهم، كأنما يمثلون الدوران حول عقيدة التوحيد، والتمسك بها، وإخلاص العبودية لله، والاستجابة لندائه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام.
كما يرمز إلى مشروعية الاقتداء بأبينا إبراهيم ورسولنا محمد عليهما الصلاة والسلام، وسائر أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين الذين لبوا دعوة الله في قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].

الحج والسعي:

إنه يضاهي تردد العبد بفناء الملك جائيًا وذاهبًا مرة بعد أخرى؛ إظهارًا للخلوص في الخدمة ورجاء للملاحظة بعين الرحمة.
وليتذكر عند تردده بين الصفا والمروة تردده بين كفتي الميزان في عرصات يوم القيامة، وليتذكر تردده بين الكفتين ناظرًا إلى الرجحان والنقصان مترددًا، وفي السعي شدة إلحاح المؤمن في استمطار رحمة الله عليه.
وفيه شعور بالضراعة بين يدي الله القوي العزيز، وفيه اقتداء بما فعلته السيدة هاجر، إذ كانت حركتها تلك حركة مباركة، وسنة قائمة إلى يوم القيامة يتعبد بها الناس ربهم ويأخذون منها وجوب السعي وراء الرزق والحث على العمل والبعد عن الكسل.

الحج والوقوف بعرفة:

يذكر الحاج به يوم القيامة واجتماع الأمم والعرض الأكبر على الله تعالى، وهو موقف يذكر بالموت الذي ينتقل به المرء إلى ربه بكفن شبيه بلباس الإحرام، كما أن فيه تجرد الإنسان في ذلك الوقت من ملاذ الدنيا، وشهوات النفس، وأن ذلك يدفع إلى الإقبال على الله تعالى، والاجتهاد في الأعمال الصالحة.
كما يركّز ذلك التجمع إلى التذكير بالبعث بعد الموت وما في يوم القيامة من أهوال، ليأخذ المسلم الاستعداد لها بأفعال الخير، وفيه من تذكير المسلمين الذين دفعوا إلى الخير، وفيه تذكير للمسلمين الذين دفعوا إلى الحج، بمشروعية الاتحاد والأخذ بالأسباب الداعية للوحدة والاجتماع.
وما هو إلا بذل المهج في الضراعة بقلوب مملوءة بالخشية، وأيدٍ مرفوعة بالرجاء، وألسنة مشغولة بالدعاء، وآمال صادقة في أرحم الراحمين.

الحج ورمي الجمار:

إنه رمز للاقتداء بسيدنا إبراهيم عليه السلام، ومحاربة الشيطان ووسوسته وتضليله.
كما يرمز إلى وجوب طاعة الله، وامتثال أوامره ليصبح المرء في عداد المحسنين، وهو عزم على الالتجاء إلى الله تعالى، ونبذ الأهواء، وهو رمز مقت واحتقار لعوامل البشر ونزعات عائد لصدق العزيمة في طرد الهوى المفسد للأفراد.

الحج وذبح الهدي:

إنه إراقة لدماء الرذيلة بيد اشتد ساعدها في بناء الفضيلة، إنه ذبح للنفس الأمارة بالسوء، وإخراجها من جسد الإنسان وإحلال روح الخير والفضيلة عليها.
وهو إظهار لنعمة الله، بتوسعته على المسلمين بأن يوسعوا على أنفسهم وعلى الفقراء والمساكين في أيام العيد، وفيه تذكير بفعل إبراهيم عليه السلام حينما عزم على قتل ابنه إسماعيل استجابة لأمر الله، ففداه الله بذبح عظيم، وأصبح الفداء بعدها سُنَّة متبعة تفعل كل عام؛ اقتداء بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي ساق الهدي من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة.

القراءات القرآنية بالمغرب

احتفى المسلمون على مدى الأزمان بقراءة القرآن الكريم وضبطه في كل العصور، واشتهر في كل زمن من الأزمنة وفي كل جيل من الأجيال، وفي كل بلد من البلدان؛ أناس عرفوا باسم القُرّاء، قيضهم الله لخدمة كتابه، فكرسوا حياتهم له ، ووهبوا أعمارهم لعلومه وفنونه، ونقلوا القرآن بمبانيه ومعانيه للأجيال من بعدهم، وقصروا جهودهم على قراءة القرآن وإقرائه، وعنوا العناية التامة بضبط ألفاظه، وتجويد كلماته، وتحرير قراءاته، وتحقيق رواياته، وفيهم قال الشاطبي في حرز الأماني ووجه التهاني:

جزى الله بالخيرات عنا أئمة — لنا نقلوا القرآن عذبا وسلسلا

ومنذ دخول الإسلام إلى بلاد المغرب اعتنى المغاربة عناية فائقة بالقرآن الكريم، باعتباره كتاب الله وأساس دينه، وأصل فلسفته وشريعته، غير أن هذا الاهتمام زاد معناه، وبلغ شأوه في العصر السابع الهجري في عهد الدولة المرينية التي ازدهرت فيها الحركة العلمية، وانتشرت معارف القرآن الكريم وعلومه، وشيدت المدراس المختلفة، وأوقف المحسنون الأوقاف المتعددة من أجل خدمة القرآن الكريم أداء وتعليما وتأليفا؛ وبحث العلماء المغاربة في مؤلفاتهم وجوه تعليل القراءات وتوجيهها، وميزوا بين متواترها ومشهورها وشاذها، وذاع صيت ابن بري الرباطي، وابن آجروم الصنهاجي، وابن القصاب والحصري ويرهم كثير*.

وعلى الرغم من اتخاذهم رواية الإمام ورش عن نافع شعارا للمدرسة القرآنية المغربية، فقد استطاع أهل المغرب أن ينفتحوا على مختلف القراءات القرآنية، بل برعوا في تحقيقها وضبطها، وأفنوا أعمارهم بتتبع كل صغيرة وكبيرة حول هذا العلم، وسطروا كل ما جادت به عقولهم وأفكارهم في مؤلفات أصبحت مفخرة المسلمين ومرجعا للدارسين من بعدهم، في الدرس والتأليف، في الشرق والغرب على السواء, فصاروا نجوما في سمآء القرآن الكريم ودررا مضيئة و شاع بهم المثل القائل:” أُنزل القرآن الكريم بمكة المكرمة، وحُفظ بالمغرب”.


*انظر كتاب قراءة الإمام نافع عند المغاربة من رواية أبي سعيد ورش – ط أوقاف المغرب للدكتور عبد الهادي حيتو